آخر الفيديوهات!

خرافة الإنسان البدائي وحقيقة نشوء الحضارة

القبائل التي توصف بالبدائية ليست بدائية كما يتوهم عنهم، وأيضا سكان الصحراء ليسوا بدائيين، وليس في المسألة أي تطور، إنما هي ظروف بيئية ومتطلباتها، وهذا يعني ان الانسان من ذرية آدم بدأوا بالخروج والانتشار من جزيرة العرب التي هبط فيها آدم كما يبدو من ظاهر القرآن، حيث أن اول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، و وجود أول بيت يعني وجود أول تجمع بشري، وهذا منطقي ، لأن الله حرمه من الجنة، فكيف ينزل من جنة إلى جنة ارضية؟ لذلك نزل في ارض صحراء. اذن الله عاقبه عند خروجه من الجنة فأنزله في وادي غير ذي زرع. وحتى قبر حواء يقال انه في جدة، ولذلك سميت بهذا الإسم. وحتى عرفات يقال انها سميت بذلك لان آدم وحواء تعارفا فيها بعد الهبوط. وحتى الكثير من المؤرخين يشيرون إلى جزيرة العرب كأصل ومنبع للإنسان وهجراته كما يقول ويل ديورانت. مستشهدا بأن اقدم الحضارات كلها تقع على تخوم شبه جزيرة العرب، كحضارات الشام والعراق واليمن ومصر القديمة. – بل حتى التطوريين انفسهم – يعتقدون بهذا، أن الإنسان الاول تطور في شرق افريقيا ثم بسبب الجفاف هاجر شرقا إلى الحجاز.  

بعد ان انتشرت ذرية آدم في الارض، منهم من عاش حول الانهار، ومنهم من تبع الابل والحيوانات وعاش في الصحراء، ومنهم من عاش في مناطق الغابات الدافئة او الباردة، فكان لكل بيئة حتمياتها على سكانها، وكان من حتميات بيئة الانهار التي تجري في السهول، أنها ألزمت سكانها بأن يبتكروا أساسات الحضارة، لأجل أن يعيشوا، لا ترفا، لأنهم ليسوا في غابات كي يعيشوا على الجمع والالتقاط والصيد، وليسوا رعاة ابل وحيوانات كي يعيشوا عليها ويتبعونها. لذلك هم يحتاجون للزراعة لكي لا يموتوا جوعا، والزراعة تحتاج الى صناعة و إلى ترويض حيوانات، وإلى هندسة مائية، ومعرفة أوقات، وهذا يحتاج لكتابة، وأمور كثيرة أخرى سيأتي ذكرها. لذلك الزراعة هي اساس الحضارة، و أهل الأنهار والعيون هم الذين أسسوا للزراعة وليس كما يقول التطوريون ان امراة الانسان القديم هي التي اكتشفت الزراعة من خلال تنظيفها لأمعاء ما يصيدون، حيث تنبت البذور، فقامت بالزراعة حول كوخها. هذا كلام يفتقر للمنطقية كثيرا. وأظن ما سبق ذكره اكثر منطقية، لأنه يوضح الدافعية للزراعة.

إن هذين الإثنين (البادية وسكان الغابات) يُتهمان بأنهما بدائيان لأن الحضارة لم تنشأ عندهما ولم يقيما حضارة مقارنة بالحضارات التي قامت على ضفاف الأنهار. هذا يدل على ان الحضارة لا تقوم إلا على الحاجة للزراعة، فأهل الصحراء لا يستطيعون الزراعة لقلة الماء ولكثرة التنقل، والزراعة تحتاج الى استقرار، و أهل الغابات ليسوا محتاجين للزراعة أصلا لتوفر مصادر الرزق من خلال الصيد والالتقاط.

إذن من المحتاج ؟ إنهم سكان الأنهار، لأن لديهم ماء عذب يجري، ولكن كيف يستفيدون منه؟ أما ما حوله فشبه جاف، إلا في موسم الربيع، وهذا الماء لا ينبت اشجار الغابات، بسبب جريانه في مسار واحد نحو البحر، فمن أين يأكلون ؟ لا بد أن يطوّروا فكرة السدود و شق الترع ويخترعوا رافعات للماء وأن يزرعوا على هذا الماء لكي يعيشوا ويعرفوا مواعيد البذور ويصنعوا تقويمات ليعرفوا وقت الجزر والمد والفيضانات ويحتاجون لمخازن وصوامع وتربية طيور ودواجن، ويعرفوا طرق الزراعة و جني المحصول وصنع الأدوات المناسبة للزراعة والحرث واستخدام الحيوانات له ولرفع الماء والنقل، وصنع العجلات والعربات، ويخترعوا القوارب والمراكب للتنقل عبر الماء ونقل الصخور والاخشاب والمنتجات الزراعية، و هم محتاجون ليفكروا في بناء المباني لقلة الغابات والكهوف، وابتكار أساليب لتخزين الطعام، لأنه غير متوفر طوال العام. وهكذا نشأت الحضارة.

إن الصناعة عالة على الزراعة، و من اجل خدمتها. والتجارة عالة على الاثنتين، فهي نقل الفائض من الانتاج ومبادلته بسلع أخرى. لذلك الصناعة تدور حول المنتجات الزراعية وطرق تطوير الزراعة والاستفادة من المنتجات الزراعية كالكتان والقطن غيرها وصناعة النسيج. هكذا الصناعة اول ما قامت كانت تدور حول هذا الأمر : صناعة الادوات الزراعية وتصنيع الانتاج الزراعي أي تحويلها واستخراج الزيوت منها وصناعة النسيج من الكتان والقطن، والحبال من القنب، وتجفيف الفواكه وتحويلها الى مربيات الخ، ثم تطورت للتعدين وصنع المخترعات الخ ، أي انها استقلت عن ارتباطها بالزراعة، ودخلت في المجالات الكيماوية وغيرها من المجالات..

طبيعة العقل الغربي تركيبية ، يأخذ مواد أولية ويركب منها، فهو مهندس بطبعه، وهذا راجع لكونه من اهل الغابات الباردة والمعتدلة ذات الاشجار مستقيمة الاخشاب، و لديه الخشب جاهز، لكن يحتاج للقياسات الدقيقة، ويحتاج للهندسة، لأن الطبيعة تضغط عليه بسبب تساقط الثلوج وما يمكن ان تؤثر به على منزله. الغربي يمكن أن نقول عن بداياته أنه كان حجّارا ونجّارا، فهم يبنون بيوتهم من الحجارة ويحتاجون الخشب كثيرا، سواء في صنع المراكب والسفن، بل حتى لصنع المقاعد والاسرة، لأن الارض رطبة عندهم ويصعب الجلوس والنوم عليها، لهذا كثرة النجارة عندهم.

من هنا نعرف ان الحاجة هي التي دفعت سكان الانهار للإبتكار ، لأنهم محتاجون للزراعة، والزراعة هي ام المهن، كالصناعة والتجارة. اما سكان الغابات الدافئة فأمطارهم دائمة تقريبا، والاشجار متنوعة الثمار والمياه مليئة بالاسماك، والجو دافئ ومعتدل طول العام، لذلك ليسوا بحاجة ملحة للابتكار، لهذا تكثر عندهم الفنون والاحتفالية والطبخ ، وحتى الدين عندهم عبارة عن طقوس موسمية متكررة احتفالية ايضا. والكهوف متوفرة ويستظلون بأغصان الاشجار ايضا وليسوا محتاجين للملابس كثيرا. ان الابتكار عندهم ليس حاجة متعلقة بالمعيشة ومسألة حياة او موت.

وكذلك البدو سكان الصحراء، لأنهم يرعون مواشيهم على ما تنبت الارض ويتنقلون من مكان لآخر بحثا عن الكلأ والماء. فهم ليسوا بحاجة لصناعة ادوات او ابتكار، بقدر ما هم بحاجة لمعرفة الدروب وقص الأثر والفراسة، والحذر من الاعداء والذئاب، و لديهم النباهة الآنية، و كل هذه متوفرة فيهم، لهذا تقل عندهم الفنون والاحتفالية، لكثرة الصراعات حول الماء والمرعى وجفاف الصحراء وخشونتها، لأن قلة الأمان تقلل الابداع الفني بشكل عام، ويحلبون من الابل والمواشي ويأكلون لحومها ويصنعون منها السمن ومن جلودها وشعورها و فروها يصنعون بيوتهم وفرشهم، هكذا حياتهم فقط. ايضا التنقل يسبب صعوبة في نقل مبتكرات وأدوات تحتاج الى تحميل، لذا دائما اثاث البدوي خفيف بسبب كثرة التنقل، وينقل الضروري فقط.  

اذن لا سكان الغابات الدافئة والباردة والصحراء متخلفين، ولا سكان الانهار متقدمين بحد ذاتهم، لكن الظروف مختلفة بينهما. وبالتالي فكرة الإنسان البدائي الذي تعتمد عليه نظرية التطور فكرة سقيمة.

من هنا نفهم لماذا أقدم حضارة تظهر على ضفاف الانهار في منطقة الشرق الأوسط، مثل السومرية والمصرية والبابلية والحميرية والسبئية وغيرها كثير، وحول الانهار في الصين والهند وجنوب اوروبا. وهذا يفسر لنا حزام الحضارة الذي يبدأ من الصين على العراق وبلاد فارس ومصر واليونان وجنوب أوروبا.

الزراعة هي أم التجارة و أم الصناعة، لأن الزراعة لا تقوم إلا بأدوات مصنوعة، كالمحراث والفأس وادوات الحفر والزنابيل والمخالب وادوات استخراج الماء والحبال والبكرات، الخ. الزراعة قدمت الفائض الذي دفع للتجارة، والتجارة كسبت أكثر مما هو متوقع، لأنها نقلت هذه السلع إلى اراضي لا يملكون أهلها مثلها، فاشتروا بهذا المال منتجات لا تُنتج في أرضهم وباعوها في بلادهم بأسعار مضاعفة، فاستقلت مهنة التجارة عن الزراعة والصناعة.

مهنة الرعي ليست بدائية، فهي لها أصولها وتعليماتها، وكذلك مهنة الجمع والالتقاط والصيد، فهي تابعة للظروف البيئية. المزارع لا يمكن ان يزرع فقط لحاجة بيته، لكن الصياد يصطاد لحاجة بيته فقط، وإلا يتلف الصيد. وأيضا سكان الغابات ليسوا محتاجين كثيرا لوسائل تبريد أو تدفئة، لأن الجو دافئ طول العام. وهذا يجعلهم أكثر أمانا، وحتى بالعادة يلبسون مؤتزرين، والنصف العلوي من الجسم مكشوف، ولهذا السبب (الأمان بالذات) نجد عند الأفارقة نزعة للفن أكثر من البادية، كالرقص والألعاب الرياضية، فهم ناجحون فيها، وحتى في الطبخ والتفنن فيه. ولا زالت هذه النزعات موجودة فيهم حتى بعد النزوح إلى الشمال، فتجد لديهم حب الاحتفالية.

إن البيئة تؤثر حتى على فنون الناس وعقولهم، وتصبغ فنونهم.


from مــدونــة الـــورّاق http://ift.tt/2pVSfxA
صور المظاهر بواسطة fpm. يتم التشغيل بواسطة Blogger.